الأحد 2016/12/04

آخر تحديث: 08:54 (بيروت)

تجريب الوهم في حلب

الأحد 2016/12/04
تجريب الوهم في حلب
AFP ©
increase حجم الخط decrease

بدءاً من شهر أغسطس/آب، صارت خرائط السيطرة تتغير بسرعة في حلب، بعدما فرضت المعارضة السورية واقعاً جديداً تمثّل بفك حصار مؤقت نفّذه النظام والمليشيات الداعمة له على الجزء الشرقي من المدينة، ثم ما لبث ذلك التغيير أن بلغ ذروة جديدة بكسر النظام لتقدم المعارضة وتقليص مساحات سيطرتها في حلب الشرقية، حتى بات مصيرها مهدداً بشكل كبير لأول مرة منذ العام 2012، الذي بدأت فيه برسم مناطق نفوذها في حلب.

في 12 يوليو/تموز أعلن القائد العام لغرفة عمليات "فتح حلب" الرائد ياسر عبدالرحيم أن "جيش الفتح" سيتدخل في حلب، وسيساعد المعارضة على تجاوز خطر الحصار. وهذا ما حصل فعلاً، حيث قلب تدخل "جيش الفتح" الأوضاع رأساً على عقب، في المعركة التي سميّت "ملحمة حلب الكبرى". وسمح فكّ الحصار المؤقت عن الأحياء الشرقية لمدينة حلب، وسيطرة المعارضة على كليتي "المدفعية" و"التسليح"، بهامش تواجد وحركة أكبر لمقاتلي "جيش الفتح" الذين كانوا يأتون من إدلب ومن ريف حلب الغربي. وقد ظهر الداعية السعودي عبدالله المحيسني، وهو الشرعي العام في "جيش الفتح"، داخل المسجد الأموي في حلب، بعدما كان يفضّل البقاء في إدلب لتجنيد المقاتلين.


حضور المحيسني الأول في حلب، جاء بالتوازي مع الحضور الأول في الميدان لـ"جبهة فتح الشام" عقب إعلان "جبهة النصرة" فك ارتباطها بتنظيم القاعدة. وأسس هذا الظهور لمرحلة صعبة في حلب، انتهت إلى نجاح النظام والمليشيات بتفكيك عقدة الجزء الشرقي من المدينة وجمع الأحياء واحداً تلو الآخر في سلّة المليشيات.


وبقدر ما شكّلت معركة "ملحمة حلب الكبرى" من خسائر فادحة للنظام وروسيا والمليشيات التي تديرها إيران، فإنها كذلك أطلقت العد العكسي لأفول ما تبقى من الجيش الحر في حلب، إذ فرض "جيش الفتح" لمشاركته في معارك كسر الحصار شروطاً عديدة تتعلق بتقاسم النفوذ والإدارة، فضلاً عن تسمية المعارك التي تحولت كلها إلى "غزوات"؛ وهذه التطورات تُرجمت في غرف المراقبة، وفي قاعات تنسيق مجموعة دعم سوريا في جنيف، بأن تنظيم "القاعدة" أصبح فاعلاً في مدينة حلب.


ومنذ ذلك الوقت، اختُزل كل ما يحصل في حلب داخل دائرة مغلقة، تلاحق فيها موسكو مقاتلي المعارضة للإمساك بهم وفحصهم إذا ما كانوا "فتح الشام" أو أي من الآخرين. وبينما كانت المعارضة تنكر وجود أي مقاتل من "فتح الشام" داخل حلب، كان سوريٌ في غازي عينتاب، أو آخر في إحدى الدول الأوروبية، ينشر صوراً ومقاطع فيديو للمحيسني، يقول في إحداها إن "ألف انغماسي" دخلوا إلى حلب الشرقية، بل إن المحيسني نفسه نشر صوره داخل حلب الشرقية.


هل كان من الممكن التساؤل ماذا يريد هؤلاء؟ ماذا تريد "فتح الشام" وحركة "أحرار الشام الإسلامية" وبقية تحالف "جيش الفتح" من حلب وهم لديهم إدلب التي يحكمونها؟ ماذا بعد عرض هذه المساعدة وما هي خطة فك الحصار؟ لا، كان ذلك من المحظورات، ومن بدأ بالكلام تلقّى الجواب على الفور: "كفّوا ألسنتكم عن المجاهدين".


في البداية أوهم "جيش الفتح" كل الذين اتخذوا وضعية عضّ الأصابع خوفاً على الأحياء الشرقية أن دعماً إقليمياً يقف وراء إطلاق "ملحمة حلب"، لكن في أوقات الاستراحة التي فرضتها اتفاقات تهدئة توصلت إليها روسيا والولايات المتحدة أكثر من مرة، ظهر المحيسني مجدداً وكشف أسماء لتجار خليجيين، وسوريين من حلب وإدلب، موّلوا هذه المعركة.


هل كان المحيسني يكذب؟ ليس تماماً، فالصراع المحتدم في سوريا بين معسكرات الداعمين الإقليميين والدوليين للنزاع ليس كما يصوره المتحدثون باسم السوريين أو باسم الثورة على شاشات وسائل الإعلام، كما أنه ليس تلك الإشاعة التي يطلقها شخص ما وتلفّ العالم على فايسبوك أو تويتر، عن إعطاء تركيا الضوء الأخضر لإطلاق "ملحمة حلب" مع إقلاع طائرة أردوغان إلى موسكو من أجل أن يفاوض بوتين بقوة. وبالنظر إلى النتائج الأخيرة التي وصلت إليها الأمور يبدو أن المحيسني كان الصادق الوحيد.


أخطأت المعارضة بتجاهلها عرض مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا إخراج مقاتلي "فتح الشام" من مدينة حلب، ومرافقتهم بشكل شخصي كضمانة لعدم استهدافهم من قبل النظام أو المليشيات، مقابل وقف التصعيد الروسي والسوري في المدينة، لاسيما أن المستشارين والخبراء الروس كانوا يتخذون من وجود أولئك المقاتلين في حلب حجّة يصمت أمامها داعمو المعارضة في غرف مجموعة دعم سوريا في جنيف. هذا العرض كان شجاعاً بحق، وربما هو الحسنة الوحيدة التي قدمها دي ميستورا طيلة فترة عمله خلال الأزمة السورية، ولم يكن ليجرؤ أي سياسي من الائتلاف السوري أو الهيئة العليا للمفاوضات على تقديم مبادرة مماثلة.


مع ذلك، اختارت المعارضة المضي قدماً بحرب محسومة النتائج لصالح النظام والمليشيات. وبعد سلسلة من الانكسارات، تخللها إجماع من قبل الفصائل الإسلامية على إنهاء وجود تجمع "فاستقم كما أمرت"، آخر الحاملين لعلم الاستقلال في حلب وأبرز من واجه النظام ومليشياته على جبهات المدينة، أعادت الفصائل الاجتماع في تحالف جديد حمل اسم "جيش حلب" وقبلت فيه عضوية "فتح الشام"، وليس من المتوقع أن يكون هذا التحالف أكثر من وهم جديد، يروح ضحيته المزيد من المدنيين.


وفي موازاة تجريب القتال تحت لواء التحالف الجديد، تجرّب المعارضة التفاوض مع موسكو في أنقرة بوساطة تركية، وهي على هذا الحال، كأنها تستعيد تجربة مفاوضات حمص، التي انتهت إلى إفراغ المدينة القديمة من المقاتلين والمدنيين، في صورة تعكس مأزق إدارة العمل العسكري الذي انتقل من حمص إلى حلب، مع فارق أن النظام يرسم نجاحاً مبكراً في حلب من خلال إفراغ الأحياء التي يسيطر عليها تباعاً في الجزء الشرقي وينقل سكانها إلى الجزء الغربي بحافلات تغزوها صور الأسد؛ ويبدو أن المعارضة، التي فاوضت على أحياء حمص المحاصرة، وتفاوض الآن على أحياء حلب المحاصرة، قد تتوصل إلى صيغة ترضي "جبهة فتح الشام" وتبقى متمسكة بأحيائها لاستكمال المعركة مقابل إخلاء المدنيين، الذين شكّلوا ملفاً ضاغطاً، وكانت صورهم وجثثهم فضيحة مدوية للجميع، بعدما قصفت روسيا وسوريا منازلهم وخرجوا من "ملحمة حلب" ليجدوا أنفسهم تحت المطر من دون مظلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها