الأربعاء 2016/11/09

آخر تحديث: 16:35 (بيروت)

ترامب: نهاية "نهاية التاريخ"

الأربعاء 2016/11/09
ترامب: نهاية "نهاية التاريخ"
القضية الرئيسة هنا؛ وجود مجموعتين متنافستين على السيطرة، بات انتاج خطاب مهيمن يجمعهما أمراً صعباً (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
لم يأت دونالد ترامب، إلى سدة الرئاسة الأميركية، مدعوماً بأصوات الأميركيين المهاجرين والملوّنين والمجموعات الثانوية، بل بأصوات "البيض". الخطاب الشعبوي لترامب، لم يحاول كسب ودّ مجتمعات المهاجرين الأميركيين، لا بل استَعداها، ورفض تقديم "تنازلات انتخابية" لها، فنال دعم "البيض" بكثافة.

ووراء كل القول المتهافت عن "غباء الرجل الأبيض" الأميركي، وخياره "المتعصب" و"الفاشي"، ثمة حقيقة لا تقبل الجدل: ترامب هو تعبير عن خوف "البيض" من أميركا الكوزموبوليتانية. فالمهاجرون والملونون والمختلفون إثنياً وثقافياً ودينياً وجنسياً، مثلوا جماعات ثانوية ضمن المجتمع الأميركي، قدمت لهم المجموعة المهيمنة الكثير لكسب أصواتهم. والديموقراطيون حاولوا أن يجلبوا امرأة كرئيس، بعدما شغل رئيس ملون "البيت الأبيض" لثمانية أعوام. المحاولة لم تنفع هذه المرة، فالمجتمع الأبيض، بات يشعر بالتهديد المباشر لـ"دولة رفاه" الخمسينيات والستينيات، التي يُعيدون تخيلها بحسرة.

ترامب، وخطابه عن استعادة "أميركا القوية"، هو ظاهرة لاستعادة هيمنة "البيض" على الدولة الأميركية، بعدما دخلتها المجموعات الثانوية بقوة. هو رفض لدور المُهاجرين، مهما قيل عن أن أميركا من دونهم هي غير أميركا التي نعرفها. فـ"أميركا القوية" هي الصواب السياسي لمضمر "أميركا البيضاء".

الأمر ليس بهذا الرعب الذي يسوقه المثقفون العرب، والحديث عن "سورنة العالم"، هو مجانبة للوقائع. فما حدث في أميركا هو حرب مواقع بين مجموعات تتنافس للهيمنة على المجتمع الأميركي. مجموعات مسيطرة متنافسة، تسوّق رؤاها، لصياغة خطاب مهيمن. وإذا كان الخطاب الديموقراطي يحابي المجموعات الثانوية، ويرسم لوحة وردية لأميركا التعايش، فالخطاب الجمهوري فضّل في هذه اللحظة مخاطبة "المجتمع الأبيض".

أميركا القوية "البيضاء" ليست مجرد خطاب انتخابي، بل إعادة توزيع للأدوار، بعدما وجد مجتمع البيض أنه بات مجموعة ثانوية، تضاف إلى مكونات المجتمع الأميركي. خطوة ارتكاسية للديموقراطية، لكنها ليست بعيدة عن مفهوم الدولة بحد ذاته، وصراع المجموعات المسيطرة للهيمنة على "المجتمع السياسي" و"المجتمع المدني". القضية الرئيسة هنا؛ وجود مجموعتين متنافستين على السيطرة، بات انتاج خطاب مهيمن يجمعهما أمراً صعباً. مصالح متضاربة، قد تجد طريقها للحل، في تسوية ضمن "الهيغمون" الحاكم كما يصفه غرامشي، إلا أنها تعكس استقطاباً شاقولياً حاداً، ضمن المجتمع الأميركي. فالمجموعات الثانوية، على جمعها، تكاد تُمثّلُ نصف المجتمع الأميركي المعاصر، ومصالحها باتت على المحك، إن لم تتمكن المجموعة البيضاء المسيطرة، القادمة عبر صندوق الانتخاب، من صياغة خطاب هيمنة جديد.

أمام ترامب تحدٍ كبير، في الموازنة بين مصالح المجموعة المسيطرة، ومصالح المجموعات الثانوية. فإن لم ينجح، واستمر في شعبويته "البيضاء" سيجد نفسه عالقاً من دون مشروع هيمنة يُقنع بقية المجموعات أنها مشتركة في النظام.

الوجه الآخر لهذا التحدي، هو طوره العالمي، فأميركا ترامب الرئيس، يجب أن تكون مختلفة عن أميركا ترامب المرشح. عدا ذلك، ثمة أزمة حقيقية، ستطال المنظومة الدولية، وستعكس النزاع الداخلي، عالمياً. حينها، سيكون الاستقطاب معولماً، بين الغرب والشرق، خصوصاً إذا ما نجح اليمين في الانتخابات الفرنسية والألمانية المقبلتين.

الحرب النووية التي لطالما هددت بها المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، في حال فوز ترامب، تبدو شيئاً غير قابل للتحقق في عالم كهذا. فالتوافق بين اليمينيين في الغرب، سيكون في حدوده القصوى، وسيكون موجهاً ضد العالم الثالث، والشرق. هنا، ليس للسلاح النووي من أهمية حتى ردعية، بين من يملكه وبين من لا يملكه.

وفي حين أن وصول ترامب للسلطة في أميركا، هو تتويج لمعركة أميركية داخلية، تبدو رؤاه السياسية الخارجية، مزيداً من الانعزال الأميركي، والدفاع عن وكلاء محليين ديكتاتوريين في الشرق. خطاب يقطع نهائياً مع دور أميركا العالمي في نشر "الديموقراطية"، ويضع نهاية لـ"نهاية التاريخ" التي بشر بها الأميركيون بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. في الواقع، لا يبدو هذا مختلفاً عن سياسة سابقه باراك أوباما، رغم كل حذلقات "الصواب السياسي" التي ساقها في ولايتيه الرئاسيتيين. فالحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب، محكوم من قبل أنظمة لاديموقراطية، قد يكون حلاً لأزمة المنظومة العالمية الاقتصادية والسياسية.

فالعالم بالنسبة إلى ترامب، هو معادلة بسيطة لا تعقيد فيها: الرجل الأبيض سيد دائماً، ولو كان في الكرملين. والرجل الملون، عبد دائماً، ولو كان في البيت الأبيض.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها