الجمعة 2014/04/11

آخر تحديث: 23:23 (بيروت)

التدمير المنهجي للدولة

الجمعة 2014/04/11
increase حجم الخط decrease
ما أن قامت الدولة اللبنانية بالحد الأدنى من مواصفات الحداثة والعصرنة ،حتى أخذت تتعرض لتدمير غير منهجي شاركت فيه كل القوى السياسية ، يمينا ويسارا ، قبل اندلاع الحرب الأهلية، ثم تولى بعدها نظام الوصاية السوري عملية التدمير ولكن، المنهجي هذه المرة ، فاستهدف الأساس الذي قامت عليه مواصفات الحد الأدنى، أي الديمقراطية والتداول السلمي للسطة. وقد كان  بارعا في توظيف من ارتضى من اللبنانيين أن يكون أداة رخيصة و تافهة في عملية التدمير.
تولى نظام الوصاية هدم الأعمدة في البناء الديمقراطي اللبناني ، وأوكل إلى الأدوات المحلية استكمال التدمير الذاتي . بدعة الترويكا شكلت مفتاح الهدم المنهجي . معها ألغي الفصل بين السلطات ، ودخل حابل السلطة بنابل المعارضة ، وتم القضاء على المؤسسات الرئاسية الثلاث ، وذلك بحصر المسؤولية المباشرة عن تشكيل الحكومات وإصدار المراسيم الجمهورية والقرارات الحكومية والتشريعات النيابية ، في مركز قرار وحيد تولت فيه إدارة نظام الوصاية صياغة القرارات أو الإيحاء بها . بعد ذلك بدأت عمليات التدمير المفصل ، في كل مؤسسة على حدة ، فصار يتم تعيين رئيس الجمهورية في عملية انتخاب شكلية ،  ثم تعيين العدد الأكبر من أعضاء المجالس النيابية كل أربع سنوات ، عن طريق اعتماد قوانين تحدد نتائج الانتخابات قبل حصولها (قصقص ورق ساويهم ناس). ثم اعتماد آليات في تشكيل الحكومات لا تحترم الأصول الدستورية .   تلت ذلك عملية ترويع وتهديد  طالت مؤسسة رابعة، هي السلطة القضائية الحامية للقانون وللحقوق، تمهيدا لتدميرها وإلغائها. بذلك صار النظام اللبناني أقرب إلى نظام الوصاية  في بلد المنشأ ، من وجوه متعددة : دولة دستورها معلق وأحكام عرفية أو قوانين طوارئ .
بعد تدمير أعمدة البناء  صار من السهل أن تكر مسبحة الهدم ، وتتداعى الجدران بإيد محلية طاب لها نهج الوصاية لأنها كانت تتبادل معه الخدمات ، إذ وفرت له الغطاء السياسي الداخلي ووفر لها الدعم الأمني واستخدم ضدها ومن أجلها كل أساليب الترهيب والترغيب ، وتناوبت معه على استباحة سيادة الدولة تمهيدا لانهيارها . 
علاقة نظام الوصاية بالقيادات اللبنانية انعكست في علاقة طبق الأصل بين هذه القيادات وجمهور الشعب ، فتعممت قيم الولاء من خارج القانون والاستزلام والمحسوبيات ، ما استلزم تدمير مؤسسات كانت قد إنشئت في وقت سابق في إدارات الدولة : مجلس الخدمة المدنية ، التفتيش المركزي ، المجلس التأديبي ، ديوان المحاسبة ، قانون الموظفين الإداري . وألغيت على صعيد عملي التشريعات التي تنظم عمل الإدارة وتعطل دور مؤسسات الرقابة ومن بينها مصلحة المناقصات تسهيلا لتفشي الفساد المالي... وبذلك انهار أحد الأركان الأساسية في قيام الدولة الحديثة ألا وهو الكفاءة وتكافؤ الفرص ، حتى باتت إدارات الدولة تشكو من تضخم في عديدها ( أكثر من 10 آلاف مدرس لا يعملون) من غير أن تتوقف عملية التوظيف بالتعاقد ، وتحولت المالية العامة مصدرا ريعيا للارتزاق ، تتوزع منه خيرات الدولة على الأزلام والمحاسيب على شكل أجور أو هبات أو قروض لغير مستحقيها في غالب الاحيان .
نظام الوصاية درب أدواته اللبنانية على عملية التخريب السياسي والاقتصادي والمالي والإداري ، فكانت في غيابه أكثر براعة منها في حضوره ، وعممت قيمه وراحت تتصرف بالوطن والكيان والشعب بالنيابة عنه لا بالأصالة عن نفسها ، فتقاسمت السلطة والثروة وإدارات الدولة ضاربة عرض الحائط كل اعتبار للدستور والقانون .
عملية المحاصصة هذه استظلت الطوائف والمذاهب واستخدمتها ستارا لتقاسم مؤسسات الدولة والثروة الوطنية والإدارات والأجهزة الأمنية والعسكرية والسلطة القضائية . حصل ذلك باسم الطوائف لا بين الطوائف  وليس من أجلها. حصل بين ممثلين للطوائف ورثوا السلطة من بنية سابقة على الاستقلال أو صادروها بقوة السلاح والميليشيات من خارج الدولة ، أو باستدراج قوى خارجية  لم يتعفف عن  فعله أحد ، فكانت حرب الآخرين على أرضنا أو حروبنا ضد بعضنا بعضا بقيادة الآخرين ومساعدتهم ،  ولم ينتبه أحد في حينه ، إلى أن الخارج الذي يستقوون به ، من القوى الاقليمية ، إنما كان يعمل لما يرى فيه خدمة لمصالح بلاده، وإلى أن الثمن الذي كانت القوى المحلية تدفعه مقابل ذلك هو تهديم بنية الدولة وانتهاك سيادتها . ومن أسف أنه لا  تلك القوى التي استدرجت السوريين والاسرائيليين والفلسطينيين والمحيط العربي كله وأدرجت الصراع اللبناني اللبناني في حمأة الصراع على القضية الفلسطينية أو في صلب الصراع العالمي بين القطبين ، ولا تلك التي يطيب لها اليوم أن تستدرج إيران أو تركيا وسواهما ،  تعلمت من التجربة ولا قرأت المتنبي في قوله : 
 " من يجعل الضرغام للصيد بازه              تصيده الضرغام في ما تصيدا". 
في ظل نظام الوصاية والمحاصصة تعممت قيم الفساد وتحولت السلطة إلى غنيمة وإدارات الدولة ووزاراتها إلى ملكيات خاصة ، فباتت الشكوى محرمة وهذه ذروة  الاستبداد . وما زاد في الطين بلة ، أن المحاصصين استخدموا الطوائف والمذاهب دروعا فأوهموها أنهم يمثلون مصالحها ويدافعون عنها ، وجعلوها تتلقى سهام النقد بديلا عنهم ، وحولوها إلى متاريس في مواجهة أصحاب المصلحة في قيام الدولة المدنية العلمانية .
 العلمانيون والتقدميون واليساريون مسؤولون هم أيضا لأنهم وضعوا تشخيصا مغلوطا لأزمة الوطن ، فراحوا يصوبون على الطائفية والمذهبية لا على المحاصصين ، ولم يتمكنوا من صياغة شعار يصلح للربيع اللبناني ، ومازالوا يعتقدون ،  منذ الاستقلال حتى اليوم ، أن الطائفية هي مرض النظام السياسي وينبغي إلغاؤها، ولم ينتبهوا بعد إلى أن المرض يكمن في عجز الطبقة السياسية عن توظيف التنوع اللبناني والنظر إليه كثروة وطنية قل مثيلها في العالم ، وفي مهارتها وقدرتها على حرف الأنظار عن الخطر الأساسي والمرض الأساسي الذي يتجسد فيها هي بالذات ، هي التي سارعت إلى استدراج الخارج ومساعدته على انتهاك  سيادة الدولة ودستورها وقوانينها .
ربما كان لبنان بحاجة إلى شعار لربيعه الخاص : الشعب لا يريد تغيير النظام ، الشعب يريد استبدال رجال السياسة المحاصصين برجال دولة ، الشعب يريد تطبيق القانون واحترام الدستور.                                                                  
 
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب