الثلاثاء 2014/04/08

آخر تحديث: 19:10 (بيروت)

صحة الرئيس ولياقته

الثلاثاء 2014/04/08
increase حجم الخط decrease
منذ  سنوات, توجهت قريبتي التي حصلت على عرض بوظيفة مرموقة في مجال البرمجة في أحدى أكبر الشركات العالمية في مصر, الى المستشفى لإجراء الكشف الطبي اللازم لإتمام إجراءات التوظيف.  و بعد إجراء الفحص الروتيني الذي لم يتجاوز بضع دقائق, وضعت طبيبة عابسة في يد الشابة التي لم تبلغ وقتها منتصف العشرينات التقرير الطبي, ورقة صغيرة لا تنص على أكثر من التالي: "غير لائقة للعمل". حاولت الشابة أن تشرح للطبيبة في توسل أن الأصابة التي نالت أحد عينيها في الطفولة, لم تؤثر عليها في تحصيل أعلى التقدريات في دراساتها الجامعية و التسجيل لرسالة الماجستير و لم تعقها في السنوات  الثلاث السابقة عن اداء وظيفتها كمبرمجة , وهي نفس الوظيفة المعروضة عليها . لكن الطبيبة لم يتجاوز رد فعلها سوى التأكيد الشفوي على حكم الأعدام على المستقبل المهني للشابة الواعدة بل و ربما على مستقبلها كله, قائلة  "أنت غير لائقة للعمل, أعملك أيه ؟". لحسن الحظ, نسى موظف الموارد البشرية في الشركة  أن يطلب التقرير الطبي و تناست القريبة  تقديمه,  و في السنوات الأربع اللاحقة ترقت المبرمجة المجتهدة في وظيفتها و تقلدت منصبا وظيفيا مهما في مشروع خاص بأكبر شركة للإتصالات في العالم بفرعها في المملكة المتحدة,و التي عملت بها لاحقا لسنتين, و مع هذا كانت أي محاولة منها للإنتقال لشركة أخرى تتحطم أمام  معضلة التقرير الطبي, الذي نص دائما على أنها غير لائقة للعمل.
قنن نص الدستور و قانون إنتخابات الرئاسة المصري الجديدين وصاية طبية  إستثنائية على منصب الرئيس, بإلزام الراغبين في الترشح للمنصب على الخضوع لكشف طبي , جسدي و نفسي لتحديد لياقتهم للمنصب. و بالرغم من أن النص القانوني المطاط  الذي لا يضع قواعد واضحة لمعنى اللياقة و محدداتها و لا لإجراءات التقاضي في ما يخص الإختصام حول نتائج الفحص  ,يبيح ثغرة قانونية متعمدة,   يمكن من خلالها استبعاد المرشحين غير المرغوب فيهم و بالتالي التلاعب في مجمل العملية الإنتخابية و نزاهتها, إلا أن معضلته الأوسع تأثيرا  على المدى البعيد هو تقنين  الاستبعاد شبة الكامل لقطاع واسع من المواطنين  من المعاقين و أصحاب الأمراض المزمنة بل و ربما الأصابات البسيطة , كما في حالة المبرمجة الشابة, ليس فقط من التنافس على رئاسة الدولة بل و أيضا من المشاركة في المجال العام إجمالا, و هو أمرا واقع في معظم الأحيان تم تثبيته اليوم بالنص القانوني.    
يكشف وزير الصحة في تصريحات صحافية عن أن أحدى المجموعات الطبية الأربع المكلفة بالكشف على مرشحي الرئاسة هي مجموعة متخصصة بالرمد. لا توضح لنا تصريحات الوزير إذ كان ضعف البصر مبررا كافيا لإستبعاد المرشح أم لا و لا يجيب عن أسئلة  مفترضة عن مدى لياقة طة حسين , "الوزير الأعمى" و عميد الأدب العربي , لتولي منصبه كوزير للمعارف في مطلع الخمسينات أم لا و لا عن رأيه في لياقة ضعيفي البصر إجمالا لتولي مناصب الإدارة من عدمه.
و في السياق, يتحدث الدكتور عكاشة في برنامج " صالون التحرير" عن مجموعته المتخصصة في توقيع الكشف النفسي على مرشحي الرئاسة, مؤكدا على أن " مسألة الفحص النفسى للرئيس المحتمل تجريها مصر لأول مرة فى العالم، ونحن مررنا بتجربة مع الرئيس المعزول محمد مرسي، وما وجدناه ونحن متأكدون منه أنه أزال ورمين فى الفص الأمامى من المخ، بحسب الملف الطبى الخاص به فى جامعة الزقازيق، الذى اختفى منها". هكذا يحنث الطبيب الشهير بقسمه, و يكشف عن أسرار و خصوصيات أحد المرضى على شاشات التلفزيون, مدعيا معرفته بتفاصيل تقرير بحسبه غير موجود, بل و يدعي في "دجل" علمي يستحق المحاسبة, صلة ما بين عملية جراحية خضع لها الرئيس المعزول و بين تجربته في الحكم, مضيفا أن" مرسي حين كان يبتسم كان الفم يتجه لناحية معينة، ما يعنى أن العصب السابع الوجهي فى المخ، أزيل فى العملية التى أجراها، كما كان يتعاطى مضادات للصرع، إما للعلاج أو للوقاية." لا يفصح الدكتور الشهير هنا أيضا عن مدى لياقة هولاء الذين تتجه ابتسامتهم الى جانب من الفم أو أزالوا عصبا و جهيا أو في حاجة طبية لتناول  أدوية للوقاية من الصرع أو أي مرض أخر لتولي منصب الرئيس و لا يكشف عن سقف المناصب اللائق بهولاء .  
يصل الطبيب المبجل في حديثه الى أقصى درجات "الإعجاز العلمي" في تصريحه بأن مرسي "كان لديه انفلات نفسى، كما رأينا فى العديد من خطاباته، وهذا الانفلات كان يوجب فحصه كما يجرى بالنسبة لأى رئيس فى العالم حين يظهر أنه يحتاج للفحص من خلال بعض الإجراءات المقننة التى نقيس بها درجة كفاءة الفص الأمامى المسئول عن أشياء كثيرة منها الضمير والمروءة والأخلاق". لا يكتفى هنا الدكتور عكاشة بالمطالبة بفرض وصاية طبية لاحقة على الرئيس بعد توليه منصبه بل و يدعي قدرة خارقة ,تنتمي لأدب الخيال العلمي أو خرافات أزمنة محاكم التفتيش , من خلالها يمكن للفحص الطبي للمخ  ثبر أغوار الضمائر و قياس الإخلاق و المرؤة و ربما صحة العقيدة و الإيمان بالله. 
تلخص إجراءات الفحص الطبي للمرشحين و تصريحات القائمين عليها, خللا عميقا في المجتمع المصري الذي لا يكتفي فقط بحرمان  مرضاه و مصابيه من أبسط حقوقهم و بمعاقبة معاقيه على إعاقتهم كل يوم بل أيضا يقنن حرمانا كاملا  لمن يعانون من الأمراض المزمنة و متعاطي الأدوية حتى لغرض الوقاية و من خضعوا لعمليات جراحية , من تولي المناصب و يضع سقفا لطموحهم في الحصول على الوظائف العامة , مستندا الى خرافات طبية سلطوية لطالما أرتبطت تاريخيا بصعود أنظمة فاشية تحلم بعالم من الرجال و النساء الخارقين لا مكان فيه للمرضى أو العجزة غير المنتجين , أنظمة لطالما استمدت مجدها من الأستقواء على ضعفائها و التنكيل بحلقاتها الأضعف. 
بينما يخشى البعض من أن يتم حرمان حمدين صباحي من الترشح بحجة اصابته بمرض الكبد الوبائي الذي يعاني منه ملايين المصريين, يظل قلقي الأكبر أن يكتشف مسئول الموارد البشرية يوما ما أن قريبتي لم تقدم تقريرها الطبي .  
 
\\ كاتب مصري \\  
 
increase حجم الخط decrease