الثلاثاء 2014/04/01

آخر تحديث: 10:17 (بيروت)

يوم في النادي - المستعمرة

الثلاثاء 2014/04/01
increase حجم الخط decrease
دعاني صديق لقضاء يوم هادئ مع أسرته الصغيرة، في النادي الرياضي الذي اشترك فيه العام الماضي، بعيداً من ضوضاء القاهرة وفوضاها. كان السؤال الأول الذي واجهنا هو: إلى أي مجمعات النادي المتعددة علينا التوجّه؟ فالنادي الناشئ منذ عشر سنوات، وكلفة عضويته تناهز 75 ألف جنيه مصري (أي ما يوازي راتب سنوات ست، بحسب الحد الأدنى للأجور الذي أقرته الحكومة المصرية ولم ينفّذ حتى اليوم)، بات مجموع أعضائه حوالى 75 ألف أسرة، أي ما يقرب من الربع مليون عضو، ما دفع إدارة النادي إلى إنشاء أربعة مجمّعات إضافية لاستيعاب الأعضاء الجدد، تتوزع بين مناطق هليوبوليس والقاهرة الجديدة ومدينة ستة أكتوبر، إضافة إلى المجمع الأول في المعادي الجديدة. وبعدما وقع اختيارنا على مجمّع القاهرة الجديدة، ربما لما يشي به الاسم من وعود عن عاصمة جديدة  سعى إليها مخطّوطها وسكانها، انبرى صديقي الحميم لتبرير إقدامه على الاشتراك المكلف في النادي، الذي لم يزره سوى مرات ثلاث خلال سنة كاملة، بوصفه استثماراً جيداً من أجل ابنته التي لم تتجاوز العامين من عمرها، مدللاً على ذلك بأن رسم العضوية قد ارتفع بمقدار 10 آلاف جنية دفعة واحدة في أقل من عشرة شهور.
 
كان الدخول عبر البوابات الالكترونية للنادي مميزاً بالترحاب المبالغ فيه من العاملين، على عكس الرفض الذي استُقبلت به لاحقاً – بصفتي ضيفاً- عند البوابات الإلكترونية لحمّامات السباحة الممنوعة على غير أعضاء النادي، ربما لتوجس ما منهم، يحتم منعهم من الاقتراب من أكثر فضاءات النادي حميمية، والمقسم بإحكام بحسب الفئة العمرية والجنس والحالة الإجتماعية، فهناك حمام للبالغين وآخر للأطفال وثالث للعائلات، وفترات مخصصة للمراهقين وأخرى للسيدات. وإضافة إلى البوابات الالكترونية والأسوار الخارجية، تحيط أسوار حديدية بالمناطق الخضراء داخل النادي، تمنع الوصول إليها، وبشكل يقسم الفضاء المتاح للحركة في ممرات ضيقة ومساحات صغيرة نسبياً محكمة وسهلة الضبط. الأمر الذي بدا لي كأنه وليد خيال معماري يستلهم منطق التقسيم والعزل والفصل كنموذج جمالي أسمى، بل وربما أيضاً كضرورة تصميمية لا غني عنها، وإن فسر لي مضيفي حينها بأن الهدف هو منع الأعضاء من الجلوس على العشب، وهو أمر ربما يبدو لإدارة النادي غير لائق بالمرّة. 
 
لكن آليات الضبط لا تتوقف عند البوابات والأسوار. ففي أركان كافتيريات النادي والمساحات المخصصة للعب الأطفال، تتركز مجموعات من رجال الأمن الخاص، ببذلات رسمية وربطات عنق ونظارات شمسية تبدو هيئتهم فيها كرجال الحراسات الخاصة. ورغم أنهم بدوا غير مكترثين بما يحدث حولهم، فيما يدخنون سجائرهم في ضجر، إلا أن حضورهم الثقيل وهيئتهم الجادة كانت كفيلة بالوفاء بالغرض من توظيفهم.
 
وبينما يفرض رجال الأمن المهندمين جواً مقصوداً من المراقبة والضبط الذاتيين، على رواد المكان، ثمة لوحات "إعلانية" منتشرة، عند مدخل النادي وفي ممراته وعند مداخل الملاعب والصالات الرياضية، تعرض حصراً تنويهات بعشرات العقوبات ضد أعضاء النادي، وتتضمن الأسماء الثلاثية للمعاقبين وأرقام عضويتهم والعقوبة المتراوحة بين إلغاء العضوية وتجميدها والحرمان المؤقت من بعض الأنشطة. وذلك، من دون أي ذكر لطبيعة المخالفة على الإطلاق. وكأن الهدف من التنويه، ليس توعية الأعضاء بالمخالفات الواجب تحاشيها، بل الإمعان في العقاب من خلال التشهير بمتلقيه، وبالتالي التذكير الدائم بقدرة "سلطات" النادي على العقاب والتنكيل المعنوي، فتتكرر دلائلها البصرية في كل ركن وعلى كل لوحة.
 
ورغم أن آليات الضبط الإجرائي تلك، ضرورة لا مفر منها في إدارة مؤسسة ضخمة ومتعددة الأنشطة، تضم ربع مليون عضو وهم في ازدياد، إلا أن فجاجة تلك الآليات، وطبيعة المشاريع الأخرى للشركة الإستثمارية المؤسسة للنادي، مع السياق الاجتماعي والسياسي الأوسع في مصر.. لافت للنظر، ويؤكد على أزمة عميقة لدى الطبقة القادرة مادياً في مصر، في ارتباطها ببقية المجتمع ومعضلاته الباقية بلا حل. فالموقع الإلكتروني للشركة المؤسسة للنادي، والمتاح فقط بالأنجليزية فقط (لمنع من لا يجدوها من ولوج عالمها الخاص)، يستعرض مشروعاتها الحالية والمستقبلية المتمحورة حول مجمّعات سكنية مغلقة ومعزولة، وسلاسل ومراكز تجارية للصفوة، وفنادق ومنتجعات سياحية مغلقة، إلى جانب مشروع مستقبلي لخدمات تعليمية خاصة. لكنه يكشف أيضاً استهداف الشركة للشرائح القادرة من الطبقة المتوسطة العليا، والراغبة في الانفصال عن الفوضى والعشوائية الضاربة في المجتمع من حولها، والتي في سبيل هذا لا تسعى إلى الانعزال فحسب، بل إلى تطبيق أقصى درجات التحكم والسيطرة الداخلية، أو ما يطلق عليه موقع الشركة "أشد سياسات ضبط الجودة". 
 
يستحضر أبناء الطبقة المتوسطة العليا تخيلاتهم عن المجتمع المنضبط الذي يبتغونه، في مجمّعاتهم السكنية المعزولة وأنديتهم المسوّرة ومؤسساتهم التعليمية الخاصة، عند أطراف القاهرة وضواحيها "الراقية"، بنظامٍ جوهره العزل والفصل عن الأغيار، وبأنظمة فجة من المراقبة والعقاب لضمان الانضباط الداخلي. وهم في ذلك، مدفوعين بهلع مفهوم ممن ينتمون إلى غير طبقتهم، وبسوء ظن وتوجس دائم هو وليد التجربة اليومية، حتى أؤلئك الذين يشاركونهم الانتماء الطبقي نفسه.
 
تأتي معضلة الطبقة الوسطى في عدم استعداد المنتمين إليها لتقديم أي تنازلات في سبيل تذويب الفوارق الطبقية الشاسعة داخل المجتمع. وعليه، يبدو أن نظاماً من الفصل والانضباط الصارم والعقوبات القاسية، هو البديل الوحيد أمامهم لاستمرار الوضع القائم، غير العادل وشديد الهشاشة. 
 
لذلك، لا عجب في شرائح مجتمعية واسعة، متأثرة بهذا التصور عن المجتمع المنضبط (وإن كانت لا تنتمي كلها إلى الطبقة الوسطى)، إذ تستقبل أحكام الأعدام بالجملة مؤخراً، وهدم المباني المخالفة بمتفجرات "تي إن تي"، وتسريب تسجيلات التصنت على شخصيات عامة بترحاب شديد. فترى في حكم رجال الجيش، القوي والصارم، وفي المحاكم العسكرية "الحازمة" والشرطة مطلقة اليد، الأمل الوحيد في مجتمع منضبط.. سعيد. 
 
هو حلم في طريقه حتماً إلى الفشل، إن لم يضحي كابوساً طويلاً للجميع، طالما أن مصالح أولئك القابعين خارج الأسوار هي أيضاً خارج معادلة المجتمع السعيد بمفهوم القاطنين داخل الأحياء المسوّرة، في دعة عزلتهم وكنف السلطوية العسكرية المقبلة.    
 
increase حجم الخط decrease