الجمعة 2014/04/18

آخر تحديث: 01:54 (بيروت)

وداعاً غابو..

الجمعة 2014/04/18
وداعاً غابو..
increase حجم الخط decrease
ليست أكثر من أيام قليلة تلك التي قضاها غبريال غارسيا ماركيز في منزله بعد خروجه من المستشفى التي أُبقي فيها لثمانية أيام. كان من وصفوا حاله، لدى خروجه، قد قالوا بأنها هشة وأنه قابل للسقوط من جديد في مرضه. على أيّ حال كانت صحّته قد بدأت بالتراجع منذ سنوات، ما اضطرّه إلى التوقّف عن الكتابة، وقد شاع آنذاك أنّه فاقد التركيز وصار غافلا عن أحداث تجري حوله.
ربما يشكّل رحيله حدثا أدبيا غير مسبوق، لا في بلدان أميركا اللاتينية وحدها، بل في العالم أيضا. الرئيس الأميركي باراك أوباما أسرع إلى إعلان أسفه لرحيله قائلا إن العالم "فقد واحدا من أكثر الروائيين سعة رؤية"، وأنّ كتاباته "ستستمرّ ملهمة للعديد من الأجيال المقبلة". وقد ذكر أوباما أنّه حصل على "مئة عام من العزلة"، الرواية الأشهر بين مؤلّفات ماركيز، هدية تسلّمها من كاتبها.
الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس، كتب أمس عبر "تويتر"، مستعيدا عنوان تلك الرواية: "ألف سنة من العزلة والحزن لموت الكولومبي الأعظم في كلّ زمان". أما رئيس المكسيك التي جعلها ماركيز منذ سنوات مكان إقامته، وهو توفّي فيها، فوصفه بأنه "أحد أهم كتّاب عصرنا".
لم يُتح لكاتب ربما أن حقّق مكانة مماثلة في حياته. ظلّت صداقة ماركيز مع فيديل كاسترو مستمرّة لعقود، ولطالما حثّه كاسترو على التقدّم لرئاسة بلده كولومبيا. كما كان صديقا لبيل كلينتون وللرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، كما قال بنفسه، متعدّيا هكذا ما يشكّل الجوهر السياسي الذي تقوم عليه كتبه. يُذكر هنا أنّ الولايات المتحدة حجبت عنه تأشيرة الدخول إليها بسبب مواقفه السياسية.
"سنتذكّر حياتك، عزيزي غابو" (وهو الإسم الذي يعرف به في بلدان أميركا اللاتينية) قالت المغنية شاكيرا إثر سماعها خبر وفاته، واصفة إيّاه بكونه "هبة فريدة لا تتكرّر أبدا".
إنّه يوم حداد في أميركا اللاتينية كلها، وكذلك في أوساط العالم الأدبية على اختلافها، مؤيّدة لواقعيّته السحرية أو متحفّظة حيالها، من دون الإنكار لأهمّية ما أنجزه فيها. ذاك أنّ الجميع يقرّ بأنّه رفع الأدب إلى ما يتعدّى السقوف التي أبقيت تحتها الجوانب التأملّية والتخيّلية من حياة الأفراد. بعض عارفيه رأوا أنّ حصّة شخصه من الشهرة المستحقَّة له تكاد تعادل حصّة أدبه. ربما ارتكز هؤلاء القائلون إلى ما قرأوه في مذكّراته، وهو الأضخم بعدد الصفحات من جميع كتبه الأخرى؛ أو ربما كان هو، بشخصه، حاملا لذلك الجوهر  الذي تمكن قراءته من النظر إلى صوره الكثيرة، تلك التي يبدو فيها رجلا جديدا من أخلاف أبطال رواياته القديمين.
حين كان ماركيز يعالج في المستشفى منذ أيام، كتبتُ مقالاً عن حياته وأدبه بعنوان "غارسيا ماكيز.. ساحر أميركا اللاتينية"، أعيد نشره الآن:


حين كان غابريال غارسيا ماركيز قابعا في المستشفى بمكسيكو سيتي منذ نحو عشرة أيام، أجرت الصحف، في العالم كلّه كما يبدو، تغطية للحدث، متهيّئة لتحضير ملفّات كانت قد أعدّتها عنه. من الصحف هذه ما ذكر أنّ كتابه "مئة عام من العزلة" كان أكثر الكتب انتشاراً، باللغة الإسبانية، بعد الكتاب المقدّس. منها ما ذكر أنّ ماركيز أهم كاتب في اللغة الإسبانية بعد سرفانتس صاحب "دون كيشوته" الذي يعدّه النقاد المؤرّخون العمل الروائي الأول، المؤسّس لفن الرواية. أما في ما يتعدّى مكانة ماركيز في البلدان الناطقة بالإسبانية، فقد ترجمت "مئة عام من العزلة" إلى لغات العالم الكثيرة وقد ذكر أنّه قد بيع منها ما يقرب من خمسين مليون نسخة.

قبل روايته هذه، التي صدرت العام 1967، كان قد كتب قصصاً وتحقيقات صحافية وأعمالا روائية بينها "عاصفة الأوراق" التي، بحسب قوله في أحد الحوارات، لم تحقّق شهرة بين القراء، وكذلك كان حال كتاباته الأخرى، إلى حين صدور "مئة عام من العزلة". كانت هذه الرواية قاطرة لأعماله السابقة واللاحقة، فقد لقيت النجاح المدوّي من فور صدورها، بل أنّ شهرتها بلغت الأوساط الأدبية في العالم قبل وصولها إليها. ألوف، بل ربما عشرات ألوف المقالات كُتبت ممجّدة مخيّلة كاتبها المبدعة، الجامعة للخيال الأدبي بالحاضر السياسي لبلدان أميركا اللاتينية كلّها، وليس لبلده كولومبيا وحده. في العام 1982 أشارت لجنة نوبل إلى ذلك عند منحه جائزتها قائلة إنّ "الخيالي والواقعي متّحدان معا في عالم مخيّلته الثري، العاكس لحياة قارّة ونزاعاتها".

وكان من أهمية الرواية أن طبعت حقبة كاملة من الكتابة الروائية، وغير الروائية، بطابعها. ما أُطلق عليه "الواقعية السحرية" نقلته الرواية من مقرّه في أدب أميركا اللاتينية إلى العالم، وخصوصا منه العالم الثالث. هنا، في أدبنا العربي، أخذت "مئة عام من العزلة" الرواية العربية إليها، فكانت رواية السبعينات والثمانينات العربية، بل وحتى مطالع التسعينات، شديدة التأثّر بها، إلى حدّ أنّه بدا من الصعب أن تعود المخيّلات العربية من بعدها إلى سابق عهدها، بحسب ما كتب روائي لبناني ساخراً في إحدى الدوريات الأدبية.

وقد أفاض ماركيز في تفسير المصادر التي كوّنت واقعيّته السحرية. قال في أحد الحوارات أنّ ما دفعه إلى أن يروي، سماعه لجدّته مرّة تروي وقائع خرافية لكن كلّ شيء كان صحيحاً واقعيا مع ذلك، ولم تتغيّر سحنتها فيما كانت تروي بل ظلّ وجهها محتفظا بتعبيراته ذاتها. أحد الأمثلة التي يذكرها عن ذلك هو قولها ذات مرّة إنّ الدهان الذي جاء للعمل في المنزل لن يغادره إلى بعد أن يملأ البيت بالفراشات. في مئة عام من العزلة استخدم ماركيز مشهد الفراشات مالئة البيت في ماكوندو، وهي فراشات صفراء بحسب ما علّق بنفسه قائلا إنّه أدخل اللون من أجل أن يكون ذلك حقيقيا وروائيا في الوقت نفسه.

gabrielgarciamarquez-(1).jpg

كثيرة هي النصائح التي ظلّ ماركيز يوجهها لكتّاب الروايات، كما للصحافيين أيضا كونه عمل في الصحافة لمدّة ناهزت الثلاثين سنة ولم يغادرها إلا بعدما بات مردوده من الروايات كافياً لعيشه. وفي المقابلات التي كانت تُجرى معه كان يدخل في تفاصيل أعماله، مبتعداً عن السياسة التي، في حياته الشخصية الصحافية والشخصية، وكذلك في المنحى الذي تذهب إليه رواياته، لم يكن بعيدا أبداً عنها. من ذلك صداقته المستمرة مع فيديل كاسترو وكذلك مع رؤساء وزعماء في أميركا اللاتينية. وفي مذكّراته التي صدرت من أعوام قليلة، وقد ترجمت إلى اللغة العربية في جزأين، جمع تفاصيل كتابته مدمجا إيّاها بقصّ ما يتصل بحياته الشخصية، كأن يكتب مثلا إنّ كتابته "مئة عام من العزلة" خطرت له بعدما ذهب مرّة مع أمه، وكان في الثانية والعشرين من عمره، إلى بلدة طفولته أركاتا، والتي كان قد غادرها وهو في عمر الثماني سنوات (وهذا على غرار إرجاعه محطّات فاصلة من حياته وكتابته إلى حوادث مفردة جرت له. من ذلك مثلا قوله أنّه أخذ واقعيّته السحرية عن جدّته وقوله مثلا إنّه أدرك أنّه وُلد ليكون كاتبا من لحظة ما قرأ الجملة الأولى من كتاب المَسخ لكافكا). قال في وقت لاحق إنّه لم يكن محتاجا إلى التأليف لكي يكتب، إذ كانت الأشياء مرئية هناك في أركاتاكا (والتي أبدل إسمها بماكندو في الرواية) كما لو أنها متهيئة لأن تنتقل بنفسها إلى الورق. وهولم يتوقّف عن إسداء النصح للكتاب بقوله إنّ عليهم أن يكتبوا ما عاشوه، ذاكرا كيف أنّه لم يخترع شيئا من التخيّل وحده.

كتابه "خريف البطريرك"، الذي ترجم إلى العربية مباشرة بعد صدور ترجمة "مئة عام من العزلة"، لم يلق الإهتمام ذاته، لا هنا ولا في بلدان العالم. بصوره الخيالية المفرطة كان قد أحدث ما يشبه أن يكون تحدّيا للمخيّلات الأدبية التي سبقت، لكنّ أثر الكتاب لم يدم طويلا، إذ بدا معه أن الرواية تحتاج إلى أن تروى متسلسلة مترابطة الوقائع. لكن كتبه الأخرى، وكلّها في ما أحسب نُقلت إلى العربية وبينها "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" و"الحب في زمن الكوليرا" و"وقائع موت معلن" و"ذاكرة عاهراتي الحزينات" إلخ.. لاقت إقبالا وإعجابا يكاد يقارب ما حقّقته مئة عام من العزلة.

ما زال ماركيز حاضرا بقوّة في المشهد الروائي في العالم. لم تتوقّف المطابع عن نشر كتبه على رغم ذهاب كتّاب أميركا اللاتينية الجدد، ومنذ سنوات، إلى الإحتجاج على ما رأوا فيه الحضور الثقيل الطاغي للأدب السحري الذي، مع دوام النسج على منواله، يتحوّل إلى أن يكون هويّة أدبية وإجتماعية لأبناء القارة، راغبين في الإنصراف إلى ما هو أكثر إقناعا والتصاقا بالواقع. لا أعرف إن كان هذا الإحتجاج قد تعدّى الآن الرفض الأوّلي أم أنّ أعمالا قد أنتجت بحسبه، مقاربة ما حقّقه تيار الواقعية السحرية الجارف. 

increase حجم الخط decrease