الإثنين 2014/04/21

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

خلاص 'الطاعون الأسود'

الإثنين 2014/04/21
خلاص 'الطاعون الأسود'
صراخ يسحب الموتى إلى الجحيم
increase حجم الخط decrease
 كيف تُغنّى الصرخات؟ وكيف تتألف العلاقة بين الإستصراخ والموسيقى؟ وما هي المضامين غير التقنية، التي ينطوي عليها غناء الصراخ، أكانت تتعلق بهوامش الاجتماع، أو بإشكاليات السياسة، وغيرها؟ بعد توطئة السلسلة، والحلقة الأولى عن ديماندا غالاس، هنا، الحلقة الثانية، عن فرقة "الطاعون الأسود".

العالم انتهى. فرنسا فاتها التقهقر. شبابها في ضياع. من يكتب تاريخ العيش المنحط؟ ومن ينقذه؟ قبل هذا الحضيض بقرون، كان ثمة ساحرات محروقات في الموائد، ومشوهين مرميين كجيف في حفر ضيقة، وملعونين مرفوعين على عواميد من خشب مسنون. قُتلوا في السابق لأنهم رفضوا المشاركة في جريمة اليوم، هؤلاء هم المنقذون، الذين إن رجعنا إليهم، وقلنا بلسانهم، سنخلص، ممجدين "الوطن" الهامد في بطونهم. إذ أصبح طاعون وقتهم ضرورياً للشفاء من داء الحضارة. وحدهم ضحاياه بمقدورهم أن يطيحوا مرضاها. لإيقاظهم، لا بد من صراخ على شكل رماح وسكاكين وإبر، عليها، يُكبس الحديث كي يسيل الأصل منه، أي دماء الأجداد في القرون الوسطى، وتفيض القارة الأوروبية بموتها.

هذه الدعوة، تكفلت بها فرقة "الطاعون الأسود" (Peste Noire)، التي أسسها في العام 2000، شاب من أفينيون (جنوب فرنسا)، ملقب بـ"مجاعة فالفند القذرة" (La Sale Famine de Falvunde)، آخذة ً على عاتقها مسؤولية سحب الموتى من قبورهم. لا بغاية رزقهم الحياة، بل لإعادتهم إلى أرض السلف من جهتين، زمنية وأخروية، أفقية وعامودية. الأولى، عبر ربطهم بإرث من الدم والعرق الطاهرين، والثاني، بردّهم إلى الجحيم، لينتموا إلى وطنية إبليسية. ولا يمكن لهذا الربط، أو الرد، أن يحدثا سوى بالغناء، الذي يدور بلغتهم القروسطية، الأكسيتانية تحديداً، وبنصوص الفزع، والحقد، التي تعظّم الشر الفرح، والتوحش الغابط، مقرظة ً مَن مارسهما في الماضي، قبل أن يسلم جسده الجذل إلى التراب: "أكره الوصايا، وأكره الأضرحة/ لن استعطف دمعة من مرء/ حياً، أفضل دعوة الغربان/ لتُدمي جثتي النتنة".
 
إرهاب التعبّد
ترغب "الطاعون الأسود" في الرجوع إلى القتلى السعداء، لا سيما أن العالم ينحدر إلى أسفل مزيف، أي أنه لا يبلغ الجحيم فيستيقظ، ولا يتوقف، في الوقت نفسه، عن الهبوط. ذلك أن الفرقة، التي لا تصنف موسيقاها ضمن "الميتال روك"، رغم اقتراب أعمالها من هذا النوع، تهجس في شأن سياسي خالص، يمكن الإشارة إليه بأغنية "Demonarque"، المقتبسة من نص التروبادور غوسيران دو سان ليديير. خلالها، تحث "الطاعون الأسود" المستمعين على القتال من أجل فرنسا القديمة، التي رفع الراحلون إسمها، "من سيحمل السلاح/ كي يسرع خونة الدموع/ في مغادرة بلادنا/ ما داموا أخطأوا بحق فخرها". لذا، وللتشيجع على هذه الحرب ضد الآخرين، يسكّن مغني الفرقة وقائدها، "مجاعة فالفند القذرة"، صوته بمستويات صراخية، يجمع الغالب منها  بين اللعن ولفظ نفس الإحتضار. بحيث أنها تهدف إلى توبيخ فرنسيي القرن الحالي على دفع البلاد نحو التدهور أكثر، وإلى إطراء الأسلاف المعزولين، والمبالغة في تفخيم تاريخهم الوطني، ومراحله الموتية على وجه الدقة.
 
تالياً، وبالعطف على تمجيدها العرق الأبيض في زمنه القروسطي وما قبله، تُتّهم "الطاعون الأسود" بالإرهاب العنصري، إذ يدفع صراخها المستمعين إلى اغتيال "الغرباء"، الذين لا يتحدرون من أصول فرانكية بحتة: "لنحرر البلاد المقيدة/ حطموا أغلالها واقتلوا أعداءها...أيها المحاربون الشجعان والأقوياء/ تجاهلوا الندم الجبان/ العين النقية تواجه العدو/ دمه المصبوب يقوي عرقنا". ويُضاف إلى هذا المقتول غنائياً، كل مُشارك في توريط فرنسا في الحضارة الحديثة، وبخرافات الإستهلاك والديموقراطية، فتغني الفرقة لحقول القمح وشمسها، وبساتين العنب وخمرها، ولإنتاج البيرة البيضاء أيضاً. 
 
وقبل هذا الغناء، تستصرخ الموت كي يحصد ما تيسر من الناس: "أمامك يضطرب الدنيئون والقبيحون/ لأنهم سيصبحون علفك قريباً/ لكن، لا تخف أيها الموت، سنتولى أمرهم بأنفسنا/ لأنك أنت صديقنا، ونحن منتصرون على الدوام". ورغم دعوات السحق والطرد، ينفي "المجاعة القذرة" تهمة العنصرية، ويبعد عنه أي ارتباط بالنازيين الجدد. فيشدد، وبحسب ما يقول في إحدى المقابلات القليلة معه، أن فرقته "أناركية يمينية"، همّها العودة إلى الأرض بعبادة الجحيم، والتعبير عن تراث الأجداد الدموي، وعن "عصبية ولاوعي وغضب" الجيل الشاب. فغناؤها ضرب من "الذهان"، الذي يساعد على الإحتكاك بواقع مفتت، سيذهب بقاطنيه نحو الهلاك. 

PESTENOIRE-3-(1).jpg
 
فولكلور القرف
مع العلم أن أصولية "الطاعون الأسود" تتضح في الموسيقى بالتوازي مع حضورها في النص. فكما ترد الصوت إلى الصراخ، مستخدمة ً إياه كمحرك غنائي، تصيِّر ألحانها عسكرية، بحيث تنقلب من الروك إلى موسيقى الحرب. وبالفعل السلفي نفسه، تتكئ الفرقة على تراث نصي، في حال لم يكن قروسطي، فهو يحيل إلى تلك القرون، أو أنه متأثر بفولكلورها، فضلاً عن قاموسه السوداوي والمرعب. في هذا السياق، يقول "المجاعة القذرة" أن فنه يكاد يكون قوطياً، بالمعنى الذي عيّنته الرواية الإنجليزية، وخرافياً، لأنه غير مألوف. لكن، وربطاً بالوصف الأصولي، لا شك في أن الفرقة تنقل أخبار المنية، على اختلاف أشكالها، إلى المستمعين، وذلك، بلا أي حسرة على موضوعه، بل بالقرف منه. فتبدو كأنها تستمد قوتها من هذا النعي المتواصل، الذي تمارسه من جانب إبليسي، وعلى أساس عبارة  "schadenfreude" الألمانية، التي يشرحها "المجاعة القذرة" بالفرح الصادر عن تعاسة الغير.
 
في بعض الأوقات، تحول الفرقة فرح الأذية هذا إلى رغبة في السخرية، من أجل إظهار ضعف الصوت أمام الصراخ. فتنتهي هذه الأغنية، على السبيل المثال،  بعظة كنسية، تُختم بـ"هللويا". كما لو أن الصراخ يتهكم على الكلام الديني، الذي يدّعي اللطف في صلاته من أجل الناس، الذين تشدد الفرقة على استلابهم، وانقطاعهم عن بعضهم البعض. فلا يمكن إنقاذهم، بحسبها، سوى بدفعهم إلى الصدمة، وإبعادهم عن الدين الإلهي، الذي تستبدله بالوباء الشيطاني، وما يلحقه من ذعر ودهشة مستمرين. ولهذا السبب بالذات، تميل "الطاعون الأسود" إلى تكديس الكوارث بالصريخ، أكان  بتفريقها في أغنيات متعددة، أو في أغنية واحدة حتّى، مثلما يجري في "La condi hu"، حيث تتكاثر في نصها الأمراض والأدواء، وبينها "الجنس البشري" نفسه. 
 
وحين تصاب الناس بهذه العلاَّت، تسخر الفرقة من الأطباء والقديسين، واصفة ً إياهم بالموبوئين والمحجوزين على التوالي. ذلك، على خلاف المصابين ببكتيريا الجحيم، والذاهبين إليه، كأنه خلاصهم الوحيد. هنا "المرضى أخذوا زمام المبادرة"، وقرروا استعجال المنية، متقبلين لحومهم المتورمة، ومستئنسين برحيلهم. كأنهم، بهذا الفعل، يتحولون إلى "جنود إبليس"، الذين يؤلفون أغنياتهم بتراث الحقد على الأحياء، ويصرخون بإلحاق الضرر بهم، قبل أن يجمد الصقيع أصواتهم، معيداً إياهم إلى أرضهم، إلى "مفترق الطرق المنحرفة، حيث القرى وحيدة، مثل الموت".
 
ديسكوغرافيا
أصدرت فرقة "الطاعون الأسود"، التي تتألف من قائدها "La sale Famine de Valfunde"، و"Ardraos"، وأودري سيلفان، خمسة ألبومات:"إقاحة القرون: في مديح الإنحطاط" (2006)، "Folckfuck Folie"  (2007)، "أهزوجة ضد عدو فرنسا" (2009)، "البذاءة المحضة" (2011)، وأخيراً ألبوم بعنوان "الطاعون الأسود" (2013). وقد استندت في أغنياتها على نصوص من التراث القروسطي، كتبها جيوفروا دو باري، وغيوم دو ماشو، وكريستين دو بزان، بالإضافة إلى قصائد حديثة أكثر، تعود لبودلير، وتريستان كوربيير، وروبير برزيلاك وغيرهم.
 
increase حجم الخط decrease