الأربعاء 2014/04/23

آخر تحديث: 22:19 (بيروت)

"حبر".. بلا تزمّت لغوي

الأربعاء 2014/04/23
"حبر".. بلا تزمّت لغوي
increase حجم الخط decrease
 يبني عمر راجح احتفاليته الواقعية، من دون تزمّت لغوي في "حبر"، بالشراكة مع الكوريغراف السويسري المستقلّ مارسيل ليمان. لا كشف عمّا هو مكشوف بالعلاقة بين الإثنين، لأنهما يصهران هواجسهما الوجودية ويكسران الحدود الثقافية والحضارية بينهما، وهما ينطقان، في بناء عرض إشكالي للأول وفي مداه التاريخي والجغرافي للثاني. لأن الرقص، فن حكمة في أوروبا، في حين أنه فن جنون في العالم العربي. 
 
يلعب عمر راجح، الكوريغراف اللبناني على الحدّ الخطر باستمرار، إذ يقفز فوق الأسئلة العادية إلى الإجابات المفتوحة بدون تردّد أمام ثنائية الكائنات والممكنات في التجربة اللبنانية. الإشارة إلى سطوة الرقص الشرقي على مجتمعاتنا، إشارة تأسيس ثقافية، عزّزها الوجود الثقافي المستعار للغرب في بلادنا. 
 
هكذا، يخوض مغامرة مفتوحة، وهو يعمل على إخراج فلسفة الرقص من ثوابتها القائمة، على التوازن بين العينين والصرة أو بين الذقن والصرة. مركز الجاذبية. هذا الاختراق الأول في"حبر". استعمال المعطى كمعطى مضادّ، في عرض عصري ما زال يلعب على مجموعة من المستويات الفردية والجماعية. نقطة التوزان بالجسد إحداها، لا أولها. تلك قناعة فكرية لدى الكوريغراف، المخالف، منذ عرض "ذلك الجزء من الجنة" مروراً بعرضه "وتدور" وصولاً إلى راهنه "حبر". 
 
يخوض عمر راجح سباقه مع الزمن، في كتابة عرض راقص فيه الكثير من الحلم والطموح والخيال، متحرّراً من سطوة التزمت المفاهيمي على صعيد بناء العرض، بكتابة عروض ضد الرقص. ولأن راجح، يبني عروضه على التوليف، لا يعود بحاجة إلى كل ما له علاقة بالمنطوق أو المجسّد. الحكاية في عروضه حيلة. لا حكاية في عروضه. تلك هي الحيلة. الحيلة، أن الرقص هو موضوع مسرحياته الراقصة، أن الحياة هي موضوع مسرحياته الراقصة. لا ترى الأخيرة إلا من خلال الجسد. جسد إيقاعي. جسد لا يعيش إلا على الإيقاع، لأن الإيقاع هو البنية الداخلية للجسد، يحوّل الجسد إلى جسد شفاف، ترى الحياة من خلاله، وهي تداخل بين بعدين، البعد الإنساني والبعد الحيواني. تحركات الجسد، تخلق المكان والزمان. عراء المكان من قوة الجسد على ملئه بما يحتاجه من عناصر . 
 
يقدّم الجسد في "حبر" ما خفي من الجسد على الجسد، داخل الإنسان. "الكلمات تشكّل فهمنا للعالم من حولنا، والكلمات التي تتوفّر لنا، تؤثر في أفكارنا. نحن نرى ونجرّب الحياة بالكلمات التي نستخدمها في التفكير والكلام. ولكن ماذا يحدث عندنا تتصادم الكلمات بالأجساد؟"، جزء من المقدمة الخاصة بالعرض في المطوية الموزّعة على باب الصالة، لا تعدو كونها محاولة لكتابة النظام الأخلاقي للعرض. ذلك أن الكلام بلا حضور فاضل هنا. إلا إذا اعتبرنا وضع الراقصة يدها على فم الراقص كلاماً، كإشارة إلى محاولة منعه من الكلام. لا علاقة للكلام بعرض عمر راجح ومارسيل ليمان. بل إن إشارة كهذه، لها القدرة على التخفيف من قوة العرض، بعدما بدا الأخير ميالاً إلى الفراغ، فراغ الفضاء وفراغ المنطوق، إلا حين يعبأ بالتأتأة والبرطمة، بأكثر من زمن. أساس العرض، العرض. عرض يقوم على التجريد، بين مفهومي دريدا وإبن رشد. تجريد يفسّر بحضور شجرة على باب جامع، تشير إلى حضور الله الأخضر، ولا تشير إليه بآن. تجريد الملموس بالمحسوس.

يقوم العرض، لا على الحركة، يقوم على ما حول الحركة. هذا واضح ومفهوم بالعرض. لذا، تميل الأيدي والأجساد، دائماً، إلى ما يقصف المعنى لا ما يحدّده. لذا، يتأمّل الراقصون الجمهور، وهم عراة، بثيابهم الداخلية فقط، ما أثار تحفظ الأخير وضحكه. لأن هذه الوقفة المتأمّلة، أضحت تقليدية من كثرة استهلاكها في كثير من العروض المسرحية والراقصة على حدّ سواء. لم تعد الوقفة هذه وقفة الغد. أضحت وقفة من التاريخ. استهلالية غير لازمة، لكي يفهم عري الراقصين على ما هو عليه. العري جمال لا عيب، في سلسلة عمليات فنية، ردّت باستمرار إلى المسرحي السوفياتي الطليعي ماير خولد، إلى البيوميكانيك، منهجه العظيم في تجربة المسرح العالمي. تمارين تحمية الراقصين من منهج ماير خولد. تمارين تؤدي إلى سيمياء الجسد، إلى استنطاق الجسد بالرقص والرقص الدرامي والإيماء والتعبير الجسماني، عبر الاستبطان النفسي الواقع بين منطقتين خطيرتين. اللاوعي وما قبل الوعي. يطلع الشعر هنا. هنا، يضحي الشعر أسلوباً للمسرحة. يهدف "حبر" إلى إكساب الراقص، اللياقات والمهارات الجسمانية والبدنية والحركية والمهارات الصوتية والنطقية، وقدرات التخييل، للسيطرة على المشاعر. الأداء في    "حبر" أداء بارد، لا لأن الرقص بارد، بل لأن عقل الرقص يبرّد الرقص وأجساد الراقصين، بعيداً من الانفعالات. حيث يتحكّم الراقص بقوة الجذب والطرد في عملية فيزيائية خالصة. عودة إلى مفهوم "السنتر دي غرافيته". تقويم الالتزام الاجتماعي والقلق الوجودي، يجري عبر العملية هذه. ما يدفع الشخصية، إلى الأداء البارد. لأنها لا تخضع  فقط إلى تأثيرات العرض الراقصة، من إضاءة وموسيقى ورقص وفراغ، بل إلى الكثير من مؤثرات العالم الخارجي. 
 
مايرخولد ومنهجه متن "حبر" . تمارين التحمية، تتبعها، مشاهد ذات طابع ميكانيكي حركي وتمارين رياضية، تنتهي بمشاهد أشبه بتمارين ذات أهداف، كتحويل جسد الراقص أو الممثل الراقص أكثر، من جسد عادي إلى جسد مسرحي، بحيث يختفي الجانب الجسماني للجسد وراء بعد آخر وصعدة أخرى وإيقاعات أخرى. كأن الرقص هنا، وسيلة للعلاج. هذا تصوّر من تصوّرات ما بعد الحداثة. بذلك، لا يجدّد الراقص طاقته، إلا باستيعاب المعطيات، وهو يربط بجسده المسافة بين ماضي المسرح ومستقبله. لا تتوقف التجربة هنا، حين تقترب من المصحة العقلية في "الماركيز دي ساد" لبيتر فايس، وحيث لا تترك شيئاً إلا وتستعمله في صالحها، من الموسيقى الوظيفية الممتازة، الجامعة بين جدّة المبنى وأصالة المعنى، وهي تساهم  في تحليل الحركة بهدف تطويرها، في فضاء صوتي لا فردوسي، متحرّر من حداثة لا تقصي نصف العالم، وهي تبحث عن حضورها. موسيقى محمود تركماني، بين روحين. روح الشرق وروح الغرب، في تأليفات مجردة، تجاري تجريدات اللغة الراقصة وترميزاتها. كما هي الحال مع موسيقى بابلو بلاسو، باستغلالها مفاهيم الإدراك الحسّي بين الصوت والمشهد. مصحة عقلية، بطبيعة إنسانية وتغريب (مسرح داخل المسرح) من روح طقوسية آرتو المطهرة. المدهش، حيوية الأجساد الهندسية. ذلك أن اعتبار الجسد معملاً، محض كل شيء حيوية إضافية، حتى الهندسة بالأداء. كل مبادئ البيوميكانيك هنا. هنا، الذهن هو البطل، ذهن حساس هو الأساس. 
 
يعاد عرض "حبر"، الثامنة والنصف مساء 25 نيسان/ابريل الجاري في مسرح مونو - بيروت.
 
increase حجم الخط decrease