الخميس 2020/12/31

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

إيمانويل ماكرون.. رجل العام 2020 في لبنان

الخميس 2020/12/31
إيمانويل ماكرون.. رجل العام 2020 في لبنان
وضع ماكرون أسساً جديدةً لدور فرنسي جديد في لبنان (Getty)
increase حجم الخط decrease

تؤثّر التجارب الملموسة على تكوين الانطباعات تجاه الأفراد عامةً والسياسيين وقادة الدول بشكل خاص، أو حيال المؤسسات. ثمّة مثل شهير في هذا الصدد: صاحب دعوى قضائية قد يخرج بانطباع سلبي عن القضاء إذا خسر دعواه، في حين يتكون انطباع إيجابي عنه لدى الرابح. هذه هي الحال في لبنان اليوم، على الأرجح، في ما يتعلق بالانطباعات تجاه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون.

مؤتمر "سيدر"
هناك من جهة، حكّام لبنان، سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال يستغلون جميعهم الفساد لمراكمة الثروات الهائلة. ومن جهة ثانية، السكان، أو قسم كبير منهم، سواء كانوا مودِعين لدى المصارف، أو يد عاملة أو طبقة وسطى، أم سكان بيروت والأحياء التي دمّرها تفجير المرفأ في 4 آب 2020، ضحايا تلك الجريمة ضد الإنسانية التي يتحمل مسؤوليتها النظام والحكّام.

كان ماكرون يمثّل، في نظر الطبقة الحاكمة، قبل حوالى ثلاثة الأعوام، صورة الرجل المُنقِذ للنظام اللبناني. هو الذي خلّص، بدعم أميركي طبعاً، رئيس الحكومة، سعد الحريري، من حادثته السعودية في خريف 2017. كان ذلك بمثابة مفارقة تاريخية تحوّل فيها رئيس الدولة المنتدِبَة السابقة، التي لم يستسغ السنّة انتدابها على لبنان وسوريا، إلى حامي "الزعيم الطائفي" السنّي الأول في هذا البلد من غضب قطبٍ عربيٍ سنّي كبير في الإقليم.

صورة الرجل المُنْقِذ تجسدت أيضاً في شخص الرئيس الفرنسي حين نظّم في ربيع 2018، مؤتمر "سيدر" الذي وعد بمنح لبنان حوالى 11 مليار دولار لتنفيذ مشاريع بنى تحتية ولإعادة النهوض باقتصاده. لكن هذا الوعد بالمساعدة أتى مشروطاً بتطبيق إصلاحات بنيوية شاملة من أجل مكافحة الفساد وتكريس الشفافية، منعاً لسرقة أموال المساعدات من قبل المافيات المتحكمّة بالسلطة في لبنان، أي حفنة السياسيين والمتعهدين والمقاولين التابعين لهم.
هنا بدأت صورة ماكرون تتحول في نظر الحكّام. هل هو منقذهم أم كابوسهم؟ السؤال نابع من إلحاحه هو وجميع قادة حكومات الدول المانحة، على ضرورة الالتزام بالإصلاحات وضمان عدم ذهاب أموال المساعدات إلى جيوب الفاسدين. وذلك قبل تقديم أي مبلغ للحكومة اللبنانية.

الإنذار المبكر
بين شهر نيسان 2018 وأيلول 2019، نشطت الدبلوماسية الفرنسية بحيوية من أجل وضع مقررات "سيدر" موضع التطبيق. أجرى المبعوثون الفرنسيون زيارات عديدة إلى بيروت. وكان العنوان السياسي الطاغي في البلد خلال تلك الفترة، يتلخص كالتالي: الإسراع في تنفيذ الإصلاحات، لأن ليس لدى لبنان وحكّامه ترف الوقت، فالبلد مقبل على انهيار مالي واقتصادي ونقدي وشيك. هذا هو مضمون الرسالة الفرنسية الثابتة منذ عام 2018.

آنذاك، امتنع ماكرون عن زيارة لبنان أكثر من مرة. هذا ما كان يعكس ضمنياً امتعاضاً فرنسياً وامتعاض ماكرون شخصياً من حالة اللامبالاة السائدة لدى القادة اللبنانيين، ومن إفراطهم في سياسة المحاصصة والمحسوبية والزبائنية والفساد. لماذا كان على الرئيس الفرنسي أن يأتي إلى بيروت طالما أن لا تقدم ملموساً في شأن تقيّد لبنان بإلتزاماته المنصوص عليها في مؤتمر "سيدر"؟
في أيلول 2019، أدى الضغط الفرنسي إلى نتيجة أولية، ولو خجولة. سرّعت الحكومة اللبنانية الخطوات لإقرار الموازنة العامة لسنة 2020. وبدت باريس مستعدة للتعامل بشيء من الليونة، فقررت إطلاق أول مرحلة من مسار "سيدر" في منتصف تشرين الثاني 2019، إذا استمر التزام بيروت بواجباتها الإصلاحية. لكن هنا انفجرت انتفاضة "17 تشرين الأول"، لتخلط كل الأوراق وتقلب الطاولة على الجميع.

أدرك الفرنسيون وجميع المانحين عندها أن ما يطالبون حكومة لبنان به، بشأن الإصلاحات والشفافية ومكافحة الفساد، يريده مواطنو وسكان لبنان مضاعفاً. وباتوا يخاطبون المسؤولين على هذ الأساس: المطلوب إجراءات ملموسة تعيد بناء ثقة الشعب اللبناني والمجتمع الدولي بالسلطة السياسية.

بين 17 تشرين الأول 2019 و4 آب 2020، بدأ التعاطي الفرنسي مع الملف اللبناني يتغيّر. أولاً، لأن المشكلة الاقتصادية والمالية باتت تتطلب برنامجاً إنقاذياً أضخم من برنامج "سيدر"، وهو ما يضطلع به عادةً "صندوق النقد الدولي" (...). ثانياً، لأن الانهيار الحاصل يفرض أولويات إنسانية وصحية وتربوية. لذا، سارعت فرنسا إلى وضع خطط استباقية متوسطة وطويلة الأمد من أجل التصدي لهذه الحالة الطارئة. بدأت بالتالي تعدّ نفسها للمرحلة التي قد يتحول فيها البلد إلى "دولة فاشلة" (...).

لحظة 4 آب
فجأةً، وقع حادث غير متوقع، أو كان يمكن تجنّبه، في 4 آب. حريق داخل "العنبر رقم 12" في مرفأ بيروت، تسبب بتفجير "نيترات الأمونيوم" المخزنة عشوائياً هناك. فكانت النتيجة جريمة ضد الإنسانية، ودماراً مادياً كبيراً في بلد منهك أصلاً بأزماته وبجائحة "كورونا". وقْع الصدمة كان هائلاً على اللبنانيين، لاسيما على سكان بيروت وضواحيها. تداخلت مشاعر الغضب مع الشعور بحالة الاحتضار. تضاربت نزعة اليأس مع الرغبة بالانتقام. البعض استسلم لخيار الهجرة. وقلّة قليلة قررت المواجهة بروح قتالية عالية، فكانت تظاهرة 8 آب في بيروت بمثابة ملحمة بطولية فَقَدَ خلالها متظاهرون عيونهم أو أصيبوا بإصابات بالغة على يد أجهزة الدولة البوليسية.

في ظل هذا المشهد اللبناني المختلط، السوريالي هنا، التشاؤمي هناك، الثوري هنالك، دخل إيمانويل ماكرون إلى الميدان، محاولاً إعادة التوازن إليه، وطارحاً نفسه كمسعفٍ قادر على حمل الجريح الذي يُحتَضر، ونقله إلى المستشفى لمعالجته. لو أنه أتى فقط من أجل المواساة، من دون أن يحمل معه "مبادرة إنقاذية"، لما كان دوره قد اتخذ طابعاً استثنائياً.

بين أول زيارة له في 6 آب، بعد يومين من جريمة المرفأ، مروراً بأول "مؤتمر دولي لمساعدة ودعم بيروت والشعب اللبناني"، في 9 آب، ثم زيارته في الأول من أيلول، وصولاً إلى مؤتمره الصحافي العاصف في 27 أيلول، كثّف ماكرون حركته الدبلوماسية باتجاه الطبقة الحاكمة. تمكن من أن يفرض على الحكّام طوال شهرين من الزمن، إيقاعاً سياسياً غير مألوف بالنسبة إليهم. وكاد ينجح في تغيير قواعد اللعبة التي يتحكمون بها منذ عام 2005. لم يدّع يوماً أنه ينوي قلب الطاولة عليهم وفرض التغيير السياسي من الخارج، على الطريقة الأميركية. على العكس، أراد التعامل معهم بوصفهم منتخبين ديموقراطياً. إلا أنه قدم سترة نجاة فرنسية للبنان من دون أن يمنح "شيكاً على بياض" للنظام والحكّام.

رجل الدولة ورجال العصابات
بهذا المنحى، بدا ماكرون كلاعب لبناني من دون أن يكون لبنانياً. أتاح لمواطني هذا البلد إمكانية المقارنة الملموسة بين رجل الدولة الفعلي ورجال العصابات والمافيات والميليشيات. بين منطق دولة القانون والمؤسسات ومنطق "الدولة الغنائمية". بين حاكم لا ينكر أن سياساته الداخلية تتماهى مع مصالح الرأسمالية الفرنسية، لكن ضمن سقف دولة تحترم دستورها وقوانينها، وتوفر لسكانها حداً معقولاً من الحماية الاجتماعية، وحكّام لصوص يخدمون الأوليغارشية اللبنانية على أنقاض الدستور والقوانين، وبعيداً من أي حماية اجتماعية لسكان متروكين لمصيرهم البائس، أو يرزحون تحت رحمة زبائنية بأعلى درجاتها الإذلالية.

خلال شهرين إذاً، ثم طوال فترة متابعته عن بعد للملف اللبناني مروراً بـ"المؤتمر الدولي لدعم سكان لبنان" في 2 كانون الأول، وصولاً إلى زيارته المؤجلة (؟) بسبب إصابته بفيروس "كورونا"، أخيراً، وضع ماكرون أسساً جديدةً لدور فرنسي جديد في لبنان.

إذا كانت فرنسا هي التي رعت تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920، واضطلعت بالانتداب عليه قبل نهاية الحقبة الاستعمارية، ها هي اليوم بعد 100 عام، تطرح نفسها، في عهده، كراعٍ للمجتمع اللبناني في ظل تسارع وتيرة انهيار هذه الدولة. قد لا يكون هذا الوضع مفرحاً، بكل ما للكلمة من معنى. وكان اللبنانيون بغنى عن كل ذلك. لكن من المؤكد أن وقْع هذا الوضع يكاد يكون أشد وطأة عليهم لولا حراك فرنسا ورئيسها، ماكرون. حراكٌ يجعل منه رجل العام 2020 في لبنان، من دون منازع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها